Sunday, February 07, 2010

رسائل البحر.. سينما داود عبد السيد

رسائل البحر.. سينما داود عبد السيد





"رسائل البحر" هو الفيلم الذي تمكن المخرج داوود عبد السيد من تقديمه بعد أن قامت الرقابة على المصنفات الفنية بإجازته، وذلك بعد أن وضعت عليه ملصق "للكبار فقط" وقد يكون لديها الحق في ذلك بسبب أن الفيلم ليس تجارياً بالمعني الدارج لدى العديد من المشاهدين.. فهو يحمل فلسفة عميقة قد لا يستوعبها البعض ممن ليس لديهم خبرة أو رؤية الاستمتاع بالفن السينمائي الذي يعد من أهم عناصره الأساسية "الإبهار والإمتاع والتشويق".

فقد استطاع المخرج داوود عبد السيد أن يجمع هذه المعادلة الصعبة دون أن يكلف المشاهد عناء الاستيعاب مقدماً عدداً من الشخصيات التي تدور الاحداث حولها أو بمعنى أصح هى التي تحرك الحدث الدرامي في الفيلم موصلا عددا من "رسائل البحر".. التي قد لا نستطيع أن نترجمها إلى أنها رسائل قد تهم البعض منا وقد يخشاها البعض الاخر.. وصولا لحالة من الامتاع العميقة التي تجعل المشاهد يتفاعل مع الشخصيات دون أن يكون مدافعا عن أحد أو واقفا ضد البعض الاخر فكل منهم يعاني هما وله أسلوب حياة خاص إلا أن ما جمعهم هو هدف الحياة.. الابطال الذين قدمهم داوود عبد السيد في فيلمه الاخير الذي عاد به بعد ما يقارب من 10 سنوات لا يتعدون عدد أصابع اليدين إلا أنه استطاع أن يجعلهم يوصلون رسالة من "رسائل البحر".

وهذا ليس غريبا على المخرج داوود عبد السيد الذي يستخدم ادواته الإخراجية باحتراف شديد دون أن يغفل شيئا قد يجعل الفيلم باهتا، ودون تفاصيل كثيرة، فمجموعة الحالات التي استطاع أن يقدمها جعلت من فيلمه يطرح تساؤلات عديدة داخل أذهان من استوعبوا الفيلم وتعايشوا مع الحالة الدرامية.


فاستطاع أن يقدم "مستر سين" ـ مشهدا اساسيا ـ خلال الفيلم ليحمل بعدا دراميا عميقا والكثير من المعاني الكاملة لحالة بطله.. جاعلا بطل الحدث الحقيقي هو "نوة" شتاء الإسكندرية ليقدم حالة سينمائية كاملة وقد يكون ما قدمه من صعوبة في تصوير "نوة" شتاء عنصرا اساسيا للتميز، فكان صوت الرعد حقيقيا والاضاءة وكل عناصر المشهد حقيقية ولذلك أوصلت المعني أو رسالة من البحر.


التوقع

كان من أهم العناصر التي لعب عليها مخرج فيلم "رسائل البحر" داوود عبد السيد صاحب التاريخ السينمائي الكبير ليس بعدد الافلام إنما بقدر الافلام التي قدمها والتي أثرت بكافة الأشكال فى تاريخ السينما المصرية.

فخلق من كل مشهد توقعا داخل المشاهد ليتوقع ما يمكن أن يحدث.. ليقدم داوود عبد السيد خروجا عما هو متوقع لدى المشاهد ليخرج من التقليدية في سرد الحدث الدرامي وهذا ما مكنه من أن يبدأ في اللحظة التي يريدها تحديدا ويتوقف بعد أن يقدم الرسالة التي يريد أن يتوقف عندها.

الإغراء

تعاني صناعة السينما المصرية في الوقت الحالي من تقديم العرى على أساس أنه موظف دراميا.. إلا أنه استطاع أن يقدم إغراء حقيقيا دون أن يقدم عريا مبتذلا فنظرة العين التي تحمل الكثير من الشبق والرغبة في الاستمتاع وكذلك الصورة "الفلو" التي توقع الجميع أن الكشف عنها سيحمل الكثير والكثير من التغير الدرامي في الحدث وصلت حالة مقنعة لهدف المشهد ليثبت مدى قدرته على تحريك المشاعر من خلال ما يستوعبه المشاهد دون أن يقدمه بشكل مباشر صريح قد يعاب عليه أنه قدمه من الاساس فالإغراء في هذا الفيلم افتقدته السينما المصرية منذ أن توقفت الفنانة القديرة هند رستم عن تقديمه.


الموسيقى التصويرية

راجح داود اسم من الاسماء المصرية التي تستطيع أن تقدم موسيقى تصويرية حقيقية تحمل الكثير من المعاني التي تفيد المشهد دون أن تكون مشتتة له بأى شكل من الاشكال.. فما قدمه في هذا الفيلم ليس غريبا على تاريخه الفني الزاخر بالعديد من المقطوعات التصويرية ومشاركته للمخرج داوود عبد السيد هو نوع من الدويتو الذي نتج عن فهم كل منهما للاخر واستيعاب كامل لما يريد الاخر توصيله من عمل وحالة درامية.

الديكور

الدكتور أنسي أبو سيف هو مهندس الديكور والادارة الفنية لهذا العمل جعل من كل ديكورات الفيلم لوحات مستقلة بذاتها فالدفء الموجود في شقة "فرنشيسكا" هو الجو الاكثر تناسبا والمساحات الشاسعة داخل شقة "يحيي" هو الذي أوصل الحالة الرائعة لوحدته التي يعيشها فكل ما قدمه سواء من ديكورات بالفيلم أو "ارت ديركتور" إدارة فنية أثبت قدرته الفنية وتاريخه الذي لا يمكن أن ينكره أحد على الاطلاق فهو قادر على استخدام ادواته جيداً.


الصورة

ما قدمه أحمد المرسي من إدارة التصوير السينمائي هو إدارة حقيقية لكل كادر ليقدم مجموعة من الكادرات السينمائية التي استطاعت أن توصل "رسائل البحر" لمستقبليها.. مستخدماً عدداً من الفلاتر التي زادت من الجمال والعمق الدرامي للمشهد بالاضافة إلى أنه استطاع أن يجعلنا نشعر في كل لحظة باستمتاع شديد من خلال عدساته.


آسر ياسين.. يحيى

مما لاشك فيه أنه فنان قوي جدا قدم عددا من الادوار التي أهلته أن يكون بطلا لهذا العمل الفني المتكامل فكان عنصرا اساسيا في الفيلم ليس لكونه البطل فقط بل لانه استطاع أن يكون محورا مهما سواء على المستوى الدرامي للاحداث أو لادائه التمثيلي الرائع الذي استطاع أن يقدم شخصية قد نصادفها في حياتنا العادية.. فالتلعثم بالكلام ليس دورا سهلا على ممثل طوال أحداث فيلم بالكامل فقد أعطى انطباعا حقيقيا وواقعيا لصعوبة مخارج الفاظه.

ليس هذا فقط فحالة الوحدة التي يعانيها كشاب قدمها بمنتهى العمق مما يؤكد أنه درس الشخصية باحتراف كامل.. في بعض الاحيان كان يتحدث بشكل سليم دون أن يتلعثم في الحروف ليس اغفالا أو استسهالا منه إلا أن ذلك كان في حالات السعادة التي كان يعيشها داخل الحدث الدرامي.. كما أنه قدم فلسفة جديدة داخل أحداث الفيلم.. فكان صمته أشد قسوة.. من جمل كثيرة قد ينطقها بطريقة شديدة الاحتراف.

فقد استطاع أن يقدم شخصية جديدة ستكون نقلة اساسية في تاريخه السينمائي الذي بدأ بالفعل منذ فيلم "زى النهارده".. يتبقى أن نقول له استمر في التقدم للأمام.


بسمة.. نورا

هذا الدور نقلة جديدة في حياتها الفنية فقد جسدت دورا جديدا كعادتها فأكثر ما يميزها أنها لم تكرر نفسها في أى دور جسدته أمام عدسات الكاميرا.. أوصلت العديد من الاحاسيس وظلت علامة استفهام غامضة طوال منتصف احداث الفيلم لينكشف عنها القناع ونعرف من هى بالتحديد في مشهد قدمته بمقدرة عالية جدا.. لتزيد التأكيد على قدراتها التمثيلية التي يتم اكتشافها في كل مرة تقف فيها أمام عدسات الكاميرا.


سامية أسعد.. كارلا

حالة الشبق مع الشعر المنهدل على ظهرها بحركة الشفاه التي تريد من يلتهمها.. هى التفاصيل التي حافظت عليها سامية في تجسيد دور "كارلا" الفتاة ذات الاصول الاوروبية والتي تعيش مع جدتها.. لتدخل في تجربة جنسية "شاذة".. قامت بتجسيدها بخبرة فنية استطاعت أن توصل كل الاحاسيس دون أن يرى المشاهد من جسدها الكثير لتقدم إغراء حقيقيا من خلال نظرات العين وحركات الوهن والحب والاستمتاع.


دعاء حجازي.. مدام ريهام

بالرغم من ما قدمته من عرى إلا أنه ليس عريا بالمفهوم الدارج فليعتبر ما كانت ترتديه "مايوه".. لان ما قامت به من دور مسيطر على مشاعر "كارلا" التي كانت في حاجة ملحة لهذه الاحاسيس المتلهفه لها.. فبالرغم من قله مشاهدها في الفيلم إلا أنها استطاعت أن تقدم دورا حقيقيا موصلا الاحاسيس الكاملة.. لكل مرة ظهرت فيها داخل أحداث الفيلم.


صلاح عبد الله.. الحاج هاشم

ظهور خاص للفنان صلاح عبد الله.. هكذا تم تقديمه على تتر المقدمة لفيلم "رسائل البحر" ليقدم من خلال قدراته التمثيلية الرائعة دورا ممتازا في عدد من المشاهد التي تضمنتها دراما الفيلم.. فهو مما لاشك فيه لديه قدرات تمثيلية جبارة سواء تراجيديا أو كوميديا ففي كل مرة يثبت أنه بالرغم من تفوقه إلا أنه يتقدم بخطى ثابتة جدا.


محمد لطفي.. قابيل

"قابيل" هو حالة من بين الحالات التي قد نلتقي او لا نلتقي بها في الحياة إلا أن حالة التعاطف والفلسفة التي قدمها من خلال دوره في الفيلم أثبتت أنه فنان بدرجة جيد جدا إلا أنه كان منتظرا أن يعاد اكتشافه واستخدامه داخل احداث فنية حقيقية تستطيع اخراج الممثل القوي داخله.. فهو من نوعية الممثلين الذي يمكن أن يخرجوا كل ما بطاقتهم الفنية لكن مع توجيهات مخرج قوي وهذا ظهر جدا في فيلم "كباريه".. فكان دوره بمثابة الصدمة للجميع ليثبت أن بداخله طاقات فنية لم تخرج بعد.. وتريد من يخرجها.


مى كساب.. بيسه

لا بد وأن تخرج عن هذا الدور الذي تقدمه باحتراف كامل لتعطي الفرصة للحكم عليها بشكل جيد كممثلة.. فدورها قد يكون بينه وبين "شوقية" في مسلسل السيت كوم "تامر وشوقية".. تشابه كبير فالاختلافات طفيفة جدا مما يصعب الحكم عليها في دورها بهذا الفيلم.


نبيهة لطفي.. فرنشيسكا

هذه السيدة الجميلة التي استطاعت أن تجسد دورا غاية في البساطة بالرغم من عمقه الشديد وتفاصيله التي تظهر من خلال خبراتها الكبيرة بالحياة وحبها لها.. فصمتها كان تمثيلا مقنعاً.. فالدور اجمالا قدمته بجدارة.


اجمالا الفيلم يعبر عن لوحة فنية رائعة لمن يريد مشاهدة الفيلم يجب أن يدرك أن ما قدمه داود عبد السيد فنا سينمائياً متكامل العناصر.. فهو وجبة دسمة من الاستمتاع والمشاعر التي قد نستشعرها جميعا من خلال عدد من الشخصيات التي تعاني مما نعانيه وتحب وتعشق ما نحبه.. فجميع هذه المشاعر التي استطاع أن يخرجها على شاشة السينما هى أحاسيس مجموعة من الشخوص كل منها يعيش في جزء من داخلنا.. كما أن للفيلم فلسفة عميقة يمكن أن نستوعبها إذا كان لدينا هذه القدرة على الاستيعاب.

"رسائل البحر" هو رسالة قد تكون مبهمة التفاصيل لا يستطيع أحد على ترجمتها إلا أنها تحمل الكثير من المعاني والاحاسيس.. الفيلم حاصل على منحة من وزارة الثقافة وأخذ الجائزة الاولى مناصفة في السيناريو الذي كتبه مخرج الفيلم بعناية شديدة جدا من جمعية نجيب ساويرس.

ليبقى سؤال هل وصلتك رسالة من "رسائل البحر"؟ الإجابة حتما ستكون في دراما الفيلم فلتبحث عنها بنفسك... بداخلك وبداخل أحداث العمل الفني المتكامل.

No comments: