منا كنت هشيش
انتصف النهار.. وكنت في وسط المدينة وكان لدى بعض الساعات التي لا أعرف أين أقضيها.. نظرت حولي وأنا واقف في وسط ميدان التحرير.. فجأة طرأت لي فكرة أن أدخل المتحف المصري.. صادفني عسكري في الشارع المغلق المؤدي إليه.. بكلمة "رايح فين".. وهو غير مرحبا طبعا.. رددت عليه وأنا على مضض "طب أفتح الشنطة".. كان بها مجموعة من الأوراق والكاميرا الخاصة بي.. مشيت في الشارع.. لأدخل المتحف صادفني عسكري آخر.. "رايح فين" للمرة الثانية وبنفس الأسلوب الذي لا يليق بأحد على الإطلاق رددت عليه طلب مني أن أريه البطاقة الشخصية.. وكان تعليقه مالك يعني مضايق ليه بالرغم من أنك متعلم.. دخلت من البوابة الرئيسية.. ومن ثم وقفت أمام شباك التذاكر.. وكان السؤال الأول للشخص الكشر.. ذو الوجه العابث.. مصري؟.. قطع لي تذكرة واحدة ثمنها جنيهان.. دخلت من البوابة الداخلية لأصل إلى بوابة المتحف وضعت الحقيبة على سير التفتيش لأجد أحد من الأمن يستوقفني لأني معي كاميرا.. دخلت معه في جدل غير مجدي.. بسبب أن التصوير ممنوع بالرغم من أن ليس هناك ما يشير إلى منع التصوير بداخل المتحف المصري.. ليس كان هدفي التقاط الصور التذكارية لأني كنت بمفردي.. كان كل غرضي فقط هو تصوير أثارنا التي هي ملكنا نحن..
لا يوجد تنويه أن التصوير ممنوع كما لا يوجد أي شئ مكتوب على التذكرة كما أنها سيئة التصميم.. فالخطأ خطئي أنا لآن كان من الأفضل أن أجلس على مقهى ادخن لي حجرين وواحد عناب أحسن من حرقه الدم اللي حصلت لي ولا كان القهوجي يقدر يسألني رايح ولا حتى كنت طلعت البطاقة ولا كنت اتمنعت من التصوير
وطن بديل
حزمت حقيبتي الوحيدة فلم يكن لدى الكثير من الملابس لان دائما يكون الخروج من البيت نادرا ما يحدث فقد تعودت على الجلوس قابعا على نفسي داخل هذه الغرفة الفقيرة المهملة.. نويت على الرحيل لم أتعجل في أن اتخذ القرار لأنه جاء بعد طول انتظار.. جلست أمام النافذة مشاهداً للعالم.. من أعلى توقف قليلا عن مشاهدة الآخرون
خرجت إلى الشارع ناويا أن ارحل لعلي أجد ما لم أحصل عليه في هذا الوطن وقد أكون عازما على تغيير وطني أملا في الحصول على وطن جديد.. أكثر جرئه في مناقشة قضياه.. ويكون أكثر شفافية في تعامله مع الشعب الذي يحكمه.. محترما أياهم ومقدرا لافكارهم.. توقفت عند الناصية الأولى لم أجد إلا مجموعة من الشباب يدخن مخدرات في نوعا غريبا من السجائر لم أعبء بهم
أكملت طريقي.. سيرا حتى وجدت طفلا صغير ممسكا بعلبة غراء (كوله) ويستنشقها حتى اصابه نوعا غريبا من الدوار وبدأ يهذي قليلا حتى ارتمى على أقرب رصيف ونام نوما أعمق من سكون أهل الكهف.. خرجت إلى الشارع الرئيسي فوجدت فوضى مرورية لا يوجد مثيلا لها.. في العالم وفجأة حدثت المعجزة.. توقف الشارع في لحظة ثبات تام وكأنها حداد على ما يحدث.. لكني اقتربت من رجل كبير لا أتفهم منه شيء فقال لي بصوت خافت وهو يتلفت حوله واحد من الكبار ها يعدي يا سيدي.. لم أفهم تفصيلا.. لكن بعد لحظات رأيت موكبا مهولا من السيارات الفخمة يمرق من أمام عيني ثم بعد بلحظات عادت الفوضى أكثر من ما كانت عليه.. وكأنها فوضى منظمة
لم تشغلني العطلة لأني لست متعجلا.. فلم يأتي وقت الرحيل حتى الآن.. تسكعت قليل في الشارع.. فوجدت مجموعة من الشباب يصرخ في وسط الميدان مطالبين بالحرية وحقوقهم الإنسانية والإفراج عن المعتقلين وتوفير فرص عمل لهم..
ومطالب آخري كثيرة لم أفهم بعضها بسبب حشود الأمن الكبيرة التي حاصرت المكان وحوطت عليهم.. وفجأة بدأ الأمن يضرب ويقمع وينتهك في المتظاهرين.. ثم أخذوهم إلى مكان غير معلوم بالنسبة لي.. رأيت في هذه الأثناء بعض من الناس يفرون هاربين فتضامنت معهم خوفا من ما جرى أمامي
بحثت عن مأوى فوجدت مقهى بلدي رخيص جلست عليه محاولا الاسترخاء.. لكني فشلت في الحصول على ما كنت اطمح إليه.. لان الضوضاء كان يملأ المكان كما شبت خناقة بين الجالسين لسبب تافه لكن من الواضح أن الناس أصبحت لا تستطيع تحمل بعضها
وقفت على ضفاف النهر.. فرأيت رجلا يقف بعيد قليلا عني ومعه معدات الصيد فأعجبني المنظر فاقتربت منه وألقيت عليه السلام فحياني باستياء مبالغ فيه.. صمتنا قليلا ثم قال لي وهو مخنوقا حتى السمك مش راضي يطلع.. أنت عارف أنا كنت آتي إلى هنا هواية.. لكن الآن أصبحت رغبة في إشباع الجوع.. نظرت له مستعجبا فبدأ يشكي لي همه الذي فهمت منه ما رأيته في هذا اليوم الطويل الذي شاهدت فيه ما لم أكن أشاهده من قبل
نظرت للساعة فقد حان الوقت لبدء رحلتي لكني أن أرحل لن أترك لهم هذه البلد ليفسدوا فيها وأن لم أكن مناضل فسأظل مواطن يحيى على أرض وطنه الذي فكر في لحظة أن يغيره.. لقد كنت مخطئا لم أكن محقا في وقت من الأوقات أن أتركها وحدها وسط وحوش ينهشون عرضها.. فهذه بلدي.. لأني إذا رحلت فلن أصل إلى شيء غير السراب لان لا وطن بديل يمكن أن يحميني.. أو يحقق أمالي.. ولن أترك بلدي للطغاة مهما ازداد طغيانهم فيها